أ.د./ محمد الميتمي، سفير اليمن في بكين
نظّم مكتب الخدمات الدبلوماسية التابع لوزارة خارجية جمهورية الصين الشعبية رحلة تعريفية استكشافية لتراث الصين وتاريخها المجيد، الماضي منه والحاضر وذلك إلى أربع مدن صينية في مقاطعة جواندنغ. كنت واحدا من بين 38 سفيرا مشاركا في هـذه الزيارة التي استغرقت 5 أيام ابتداء من 15 يناير وحتى 19 يناير من هذا العام. كان المشاركون ينحدرون من أربع قارات هي آسيا، أفريقيا، أوروبا وأمريكا اللاتينية والكاريبي.
كان رحلة مثيرة وبديعة شانها شأن معظم الرحلات التي تنظمها وزارة الخارجية الصينية بشكل شبه منتظم للسلك الدبلوماسي الأجنبي المعتمد في بكين لتعريفهم بتأريخ هـذا البلد وتراثه وحضارته القديمة وانجازاته المعاصرة. ما ميز هذه الرحلة عن سابقاتها بالنسبة لي هما آمران مميزان للغاية:
الآمر الأول: التداخل والتناغم التام في هذه المقاطعة بين الماضي المنحوت في شواهد حضارة الصين وتراثها القديم الراسخ اللبنات وايقاعات الحاضر المتلاطم الأمواج المتسارع الخطى، بين الاصالة والمعاصر بين التحديث البالغ القوة والسرعة والانتشار، و بين التمسك بالتقاليد الصينية العريقة والحفاظ على القيم والتقاليد الجميلة الخلاقة. لن أتمكن من سرد التفاصيل في مقال عابر وموجز كهذا، لكني سِأعرج على لحظات استوقفتني وسلبت لبي حتى قطعت أنفاسي من فرط انفعالي ودهشتي بها في المحطة الأخيرة من الزيارة بمدينة شينزن الأسطورة الواقعة جنوب الصين.
الآمر الثاني: هو عبوري الشخصي للبرزخ على أيدي ملائكة سكان هـذه المدينة وانطباعاتي الشخصية لتجربة العبور هـذه التي تغيرت على وقعها كثيرا من القناعات والمسلمات وانماط التفكير المكتسبة لعقود تجاه بعض أهداف الحياة ومعانيها وصيرورتها.
فيما يتعلق بالشأن الأول – كان الذهول والاعجاب الشديد قد غمر نفوس جميع الدبلوماسيين المشاركين في هـذه الرحلة وسلب ألبابهم من عظمة ما شاهدوه ووقع ما سمعوه من منجزات مهولة في غضون فترة قصيرة يحتار معها العقل. فمدينة شينزن هذه على سبيل المثال لا الحصر التي تقع بمحاذاة هونج كونج في جنوب الصين كانت قبل 40 عاما مجرد قرية صغيرة نائية نائمة على دلتا نهر اللؤلؤ المستنقعي لا يزيد تعداد سكانها عن 20 ألف نسمة، لتنطلق كبركان ثائر في أكبر معجزة اقتصادية في العصر الحديث، فتغدو مدينة صناعية عملاقة يزيد عدد سكانها اليوم عن عشرين مليون نسمة أستغرق تشييدها وقتا أقل من بناء كاتدرائية القديس بولس في لندن وتضاعف سكان بمقدار ألف مرة. إنها اليوم سيليكون فالي الصين ولكن بحجم أكبر ودينامية أسرع وتناغم مبهر بين جمال الطبيعة الخلابة والبيئة النظيفة وحضور التأريخ مع هدير مجلجل لا يتوقف لدواليب آلات التصنيع والتحديث. يستنبط الزائر لهذه المدينة الأسطورة التي لا تشبهها مدينة أخرى على وجه الأرض والتي يتكون معظم سكانها من الشباب المبدع أن المستقبل يتكوم هنا ويتخّلق بلا منازع.يصاب المرء عند مشاهدة تلك الإنجازات المذهلة بالإحباط والتفاؤل في آن واحد. الإحباط بأن لا سبيل للمنافسة واللحاق بهم أمام وقع تلك السرعة المهولة في التصنيع والتحديث. فهم يندفعون نحو المستقبل في اليوم الواحد بما يعادل ألف يوم، وعلى النقيض من ذلك يتحرك وطني اليمن في اليوم الواحد بنفس معدلات السرعة ولكن في اتجاه معاكس، أي بمعدل ألف يوم إلي الوراء. والتفاؤل بأن لا مستحيل أمام تطور أي آمة إذا ما وُجِدت القيادة الوطنية الحكيمة المسلحة بالإرادة والرؤية. فها هو ذا البلد الـذي كان في مطلع سبعينات القرن العشرين يعيش في تخلف مرير ويقاسي مئات الملايين من سكانه الفاقة والفقر والمرض، يتبوأ اليوم المركز الثاني على الصعيد العالمي من حيث حجم الناتج المحلي الإجمالي، وتمكن من تحرير نحو 800 مليون نسمة من سكانه من براثن الفقر والمرض، وغدت الصين اليوم مصنع العالم بلا منازع في فترة وجيزة تقل عن نصف قرن من الزمن.
فيما يخص الشآن الثاني فهي تجربة شخصية قاسية مررت بها خلال هـذه الرحلة تحمل في جنباتها جمال الحياة وقتامتها، حلوها ومرها.
حملت رياح البحر الذي يطوق مدينه شينزن الجميلة وهي المدينة التي تضج بالحركة والحياة وعبير الزهور والورود العطرة تتدفق من غاباتها الكثيفة وحدائقها الكثيرة المنتشرة التي تحفل بها في كل شارع وزاويه وتطوقها من كل صوب عبر نوافذ غرفتي في دار الضيافة(أوجوو) التي يبعد مئات الأمتار عن شطئان البحر، يلامس شذاها باحات قلبي لعلها تغسل عنه أدران الحياة والاحزان والكروب التي تراكمت في حجراته الأربع على امتداد عشر سنوات من الحرب الاهلية وحروب كثيرة سابقة عليها في (وطن بلا وطن وحلم بلا أمل) لتجبره على التوقف عن العمل وأداء وظائفه عن حمل الاوكسجين ونبض الحياة لكل خلية في جسدي. يوجز شاعر اليمن العظيم الراحل عبدالله البردوني محنة اليمن هذه قائلا: هذي بلادي وفيها كل شيء إلا أنا وبلادي. كما ردد شاعرنا العظيم هذا منشداً: مُتُ يوماً يا صديقي وأنا... كل يومٍ والردي شُرْبي وزادي. أنتَ في قبرٍ وحيدٍ هادئٍ....أنا في قبرين: جلدي وبلادي.
الا أن عقلي أبى أن يطاوع قرار القلب المثقل بالأحزان بالتوقف عن النبض ومواصلة الحياة تمسكا بمن نحبهم ونرعاهم وفي مقدمتهم زوجتي الغالية واولادي الثلاثة. فاتصلت فورا بالآنسة هوانغ يو جو السيدة المسؤولة عن لوجستيات هذه الرحلة وذلك تمام الساعة الثالثة بعد منتصف ليلة الجمعة – وهو يوم مغادرتنا المدينة عائدين إلي بكين- اخبرها أن صدري يتصدع من شدة الألم وأن قلبي يرتجف ويترنّح، يرتجي التوقف والاستراحة من عناء الحياة ومشقاتها وكدرها.
ظل قلبي ينازع عقلي في طبيعة القرار الصائب، هل للبقاء على قيد الحياة أما مغادرتها وترك بضاعتها البائسة الحزينة على رصيف ميناء الشقاء والبؤس الإنساني التي تزدحم به حياة اليمنيين. لم تكن سوى لحظات معدودة حتى كانت سيارة الإسعاف التي استدعتها الانسة يانغ لي الى الفندق لترجح الموقف وتحسمه لصالح قرار العقل بالتمسك بالحياة ومواصلتها رغما عن رجاء القلب بالاستراحة من عنائها.
قام الطبيب (ووتشون) ومساعديه في مستشفى فرع بكين الجامعي بمدينة شينزن التي حملتني سيارة الإسعاف مسرعة اليه بوظيفته الجليلة بالحفاظ على حياتي ببراعة ومهارة وكفاءة واقتدار وسرعة لا تصدق. بخلاف صناع الموت في بلدي ورعاتهم الاقليميون والدوليون الذين ينتشرون في كل الأماكن والأودية، في الأزقة والشوارع، في السهول والجبال، يجلبون الموت لليمن من فوق السحب ومن أنفاق الأرض، الذين يلغّمون زخات المطر وسنابل القمح وضحكات الأطفال. فهم من لا يجيدون سوى انتزاع الأرواح بالصواريخ والطائرات والقنابل والالغام وكل وسائل الموت التي لا تفرق بين طفل وامرأة، بين شيخ كهل وشاب يتطلع للحياة، بين مريض يكابد أوجاع المرض أو صحيح خرج للتسوق لشراء قوت أطفاله، أو متسول يفتش عن بقايا طعام رماه المتخمون من البشر في سلال القمامة.
وما هي الا ساعة أو أقل قليلا في غرفة العمليات حتى قال لي الطبيب مبروك منحناك حياة جديدة ومنعنا قلبك رغما عنه من التوقف عن النبض والاستمتاع ببهجة الحياة وجمالها التي وهبها الله لك. فلا تبتأس ولا تيأس. لقد أحاطني طاقم المستشفى كله بالرعاية والاهتمام الشديدين بدء من الدكتور الـذي أجرى عملية القسطرة ومساعديه إلي الممرضة (يانغ هوي) التي سهرت علي صحتي وعافيتي بكل تفان وإخلاص علي مدار ثلاثة أيام متواصلة إلي مديرة المستشفى الدكتورة ومساعديها، إلى فريق الخارجية الصينية سواء في بكين ومكتبها في المدينة والمقاطعة، إلى فريق قطاع إدارة الخدمات الدبلوماسية الـذين ابقوا علي أربعة أشخاص للسهر علي سلامة حياتي وعبوري البرزخ بسلاسة وأمان خلال فترة الازمة. كان كل هؤلاء يتناوبون علي غرفتي بمعدل مرتين في اليوم للاطمئنان علي مسار العملية ونجاحها. لم أشهد في حياتي التي طُويت عقودها الستة الماضية المضنية في طرفة عين، كل ذلك الحنان والدفء الإنساني والرعاية البالغة كما شهدته خلال تلك الأيام الثلاثة من كل هؤلاء الأصدقاء، فيما عدا أمي وأبي. لم تكن كفاءتهم ومهارتهم المهنية فقط هي التي أذهلتني وأسقتني ماء الحياة ودفقها الجميل الفياض، بل أيضا روحهم الإنسانية البديعة ومشاعرهم الفياضة بالحب ومعاني الحياة الجميلة التي ذكرها عالم النفس الشهير والخصم العنيد لسيجموند فرويد الفرد آدلر في كتابه الأكثر شهرة بعنوان معنى الحياة. عدت إلى بكين في اليوم الرابع برفقتهم لألتقي بعائلتي وزملائي وأصدقائي التي عدت إليهم كائنا جديدا بحلة جديدة تغلب عليه نزعة الحياة عليه نزعة الموت والأمل على اليأس.
فشكرا لجميع أولئك الأصدقاء الصينين الذين أعادوا لقلبي نبضه وملئوه بالأمل والحب للإنسان والإنسانية من جديد بعد أن كاد اليأس والقنوط لسنوات يسلبها منه.