تأسست منظمة الأمم المتحدة بعد الحرب العالمية الثانية عام 1945، وقد حدد ميثاق الأمم المتحدة، الذي دخل حيز التنفيذ في أكتوبر عام 1945، أن الغاية من تأسيس تلك المنظمة هو الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، من خلال تدابير جماعية تقوم على أساس إزالة الأخطار التي تهدد السلام، وتنمية العلاقات بين الدول على أساس المساواة، من خلال إحترام سيادة وحقوق الدول، وإحترام حق تقرير مصير الشعوب، وإحترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية للجميع دون تمييز.
فالصين عضو مؤسس في الأمم المتحدة منذ عام 1942، وأستعادت مقعدها في الأمم المتحدة عام 1971، وأصبح لديها علاقات دبلوماسية دولية مع أكثر من 169 دولة، وتعد أحد أهم الدول الأعضاء في المنظومة الدولية، وواحدة من الدول الأعضاء الفاعلة "الخمسة الدائمين" في مجلس الأمن الدولي. وبناءاً على ذلك، إلتزمت الصين بمبادئ ومقاصد الأمم المتحدة بثبات، من خلال الدعوة للحفاظ على السلم والأمن الدوليين، وحماية حقوق الإنسان، وتقديم المساعدات الإنسانية والتنموية للجميع، وتعزيز التنمية المستدامة، والتمسك بسيادة القانون الدولي تجاه الأخرين دون تمييز.
فمنذ إنعقاد مؤتمر باندونغ في أندونسيا عام 1955، والذي حضرته الصين إلى جانب 29 دولة أفريقية وآسيوية، أكدت الصين سعيها وحرصها على تحقيق التنمية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجميع، وإيجاد أسس جديدة وتعددية للعلاقات الدولية، ووضع حد للنفوذ والأحادية والسيطرة الأجنبية والاستعمار، من أجل احترام سيادة الدول وحقوقها المشروعة، وعدم التدخل في شؤونها، واحترام حقوق الإنسان، وفض النزاعات بالطرق السلمية.
ومع تزايد التحديات في المنطقة العربية منذ عقود، والمتمثلة في عدم الاستقرار الجيوسياسي بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي تعاني منها معظم شعوب ودول المنطقة، ولعل القضية الفلسطينية هي جوهر تلك الأزمات، والتي لازالت بحاجة لإرادة عربية وإقليمية ودولية من أجل إنهاء الإحتلا ل الإسرائيلي وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وذات السيادة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشريف، وتقرير مصير الشعب الفلسطيني الذي لا يزال تحت الظلم والقهر والحرمان منذ أكثر من 75 عام.
فالصين تدعم الحقوق السياسية والإجتماعية والإقتصادية والمدنية الفلسطينية، وقامت بفتح مكتب لمنظمة التحرير الفلسطينية في بكين عام 1964، وأعترفت بالدولة الفلسطينية عام 1988، ودعمت الصين الخيارات الفلسطينية في مراحل النضال الوطني الفلسطيني لتحقيق العدل والإنصاف برفع الظلم عن الشعب الفلسطيني ، فدعمت حركات التحرر الوطني ضد الإحتلال الأجنبي بكافة أشكاله، ودعمت خيار التسوية السياسية بناءاً على رغبة الفلسطينيين والعرب، وتماشياً مع مبادئ ومقاصد المجتمع الدولي في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، شريطة أن تنفذ الإتفاقيات الموقعة والقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية لتسوية القضية الفلسطينية تسوية شاملة وعادلة، وتحقيق الأهداف السياسية للشعب الفلسطيني بحزم وثبات.
لذلك لم تتخلى الصين عن موقفها الثابت والفعال تجاه تسوية القضية الفلسطينية، وترجمت هذا الموقف من خلال فاعلية الدبلوماسية الصينية تجاه حل القضية الفلسطينية في المحافل الإقليمية والدولية، حيث تبلورت تلك الدبلوماسية من خلال المبادرات والأفكار والمقترحات التي قدمها الرئيس الصيني شي جين بينغ في أكثر من محفل إقليمي ودولي بهدف حل وتسوية القضية الفلسطينية، وتأتي هذه المبادرات لتؤكد مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للدولة الصينية، وأيضاً للتأكيد أن السلام والإستقرار والإزدهار لا يتحقق في منطقة الشرق الأوسط إلا بحل وتسوية القضية الفلسطينية بشكل شامل وعادل وفقاً للقانون الدولي وقرارات الأمم المتحدة. فالصين تدعو لتعزيز التقدم البشري والتناغم العالمي، بهدف إيجاد الحلول السلمية لكافة النزاعات والخلافات من خلال التشاور والحوار والعمل المشترك مع الأطراف كافة، وصولاً للفوز والمصير المشترك.
في عام 2013، طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة "الحزام والطريق"، وأصبحت فلسطين جزء من هذه المبادرة، والتي تهدف لتعزيز التفاهم والتعاون والعمل الجماعي المشترك بين الأطراف كافة، بهدف حل المسائل العالقة والتغلب على المعيقات والصعوبات من خلال الحوار، والإنفتاح بهدف تحقيق المنفعة المتبادلة والمصير المشترك وصولاً لتحقيق التنمية المستدامة، وعندئذ يتحقق السلام الشامل والعادل. فالصين ترى أن الهدوء والإستقرار لا يتحقق في الشرق الأوسط دون حل القضية الفلسطينية بشكل شامل وعادل، فالقضية هي مفتاح السلام والأمن في المنطقة، والتي تعتبر الرابط الأساس بين القارات الثلاث، فحل القضية الفلسطينية لا يخدم الشعب الفلسطيني فقط، وإنما الأطراف كافة لتحقيق السلام والتعاون والإزدهار.
وفي عام 2017، طرح الرئيس الصيني شي جين بينغ مبادرة "النقاط الأربع" لحل القضية الفلسطينية، والتي تهدف لدعم الحل السياسي على أساس حل الدولتين، وتعزيز الأمن المشترك والمستدام، وحشد الجهود الدولية لدعم السلام، وتحقيق السلام من خلال التنمية.
وفي مارس 2021، أطلقت الصين "مبادرة النقاط الخمس" لتحقيق الأمن والاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، والتي تهدف إلى تعزيز الاحترام المتبادل، والالتزام بالعدالة والإنصاف، والحد من إنتشار الأسلحة النووية، والعمل على تحقيق الأمن الجماعي، وتسريع التعاون الإنمائي.
وفي يوليو عام 2021، طرح وزير الخارجية الصيني وانغ يي، أثناء زيارته لمصر، ثلاثة أفكار لتنفيذ وإنقاذ مبدأ "حل الدولتين" من أجل دعم عملية التسوية السياسية، حيث هدفت هذه المبادرة لتعزيز مؤسسات السلطة الوطنية الفلسطينية، ودعم تعزيز الوحدة الداخلية الفلسطينية، وتشجيع الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي على إستئناف مفاوضات السلام على أساس "حل الدولتين"، وفقاً للقانون الدولي.
وفي فبراير عام 2022، إقترح الرئيس الصيني شي جين بينغ "مبادرة الأمن العالمي"، والتي تهدف للقضاء على الأسباب الجذرية للصراعات الدولية، وتحسين حوكمة الأمن العالمي، وتعزيز الجهود الدولية المشتركة لتحقيق قدر أكبر من الأمن والاستقرار في عالم غير مستقر، وتعزيز الأمن والسلام الدائم والتنمية لجميع الأطراف. لذلك، أكدت المبادرة ضرورة العمل بروح التضامن والتعاون، والتصدي للتحديات الأمنية المعقدة والمترابطة، على أساس الرغبة في تحقيق الأمن والسلم والمنفعة المتبادلة والمصير المشترك للجميع.
وفي يونيو عام 2023، وخلال لقائه الرئيس الفلسطيني محمود عباس في بكين، قدم الرئيس الصيني شي جين بينغ إقتراحا من "ثلاثة عناصر" لتسوية القضية الفلسطينية، أهمها: إقامة دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على حدود عام 1967، وعاصمتها القدس الشرقية، وينبغي على المجتمع الدولي أن يكثف المساعدات الإنسانية والتنموية لفلسطين، وأن يتم الحفاظ على مسار التسوية السياسية وفق مبدأ "حل الدولتين"، وأن يتم إحترم الوضع التاريخي للأماكن المقدسة في القدس، وأن يتم تجنب الأعمال الأحادية، والدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام متعدد الأطراف وأكثر مصداقية، وأن الصين مستعدة للمساعدة في تحقيق المصالحة والوحدة الوطنية الفلسطينية، وتعزيز محادثات السلام.
ومع إنتهاء زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس للصين، والتي إستمرت لثلاثة أيام، تم الإعلان رسمياً عن إقامة العلاقة الإستراتيجية بين الصين وفلسطين، وهذا يؤكد عمق علاقة الصداقة والمواقف الثابتة المشتركة بين البلدين في كافة القضايا الثنائية.
فالصين اليوم تثبت للعالم أن لديها موقف ثابت وواضح وراسخ تجاه السعي للحفاظ على الأمن والسلم الدوليين، منذ نشأة المنظمة الدولية، وهذا ما نلاحظه في النظرية والتطبيق. والجدير بالذكر هنا، أن المواقف والمبادرات الصينية تجاه السعي لتسوية القضية الفلسطينية، وتحقيق الحق والعدل تجاه الشعب الفلسطيني وحقوقه الغير قابلة للتصرف، تهدف لحماية الشعب الفلسطيني وتحقيق الأمن والسلم الدوليين، وتعزيز سيادة القانون الدولي، وتعبير عن إرادة حكيمة ومسؤولة لإحترام حقوق الشعب الفلسطيني، بعيداً عن التنمر والظلم والحرمان والقهر، الذي لا يزال يعيشه الشعب الفلسطيني بكل أطيافه.
فالصين عنوان "السلم والأمن الدوليين" لأنها هي الحريصة على حماية أمن وسلامة الجميع، فالصين تفكر بغيرها كي ينعموا بالأمن والسلام والإستقرار والإزدهار، في الوقت الذي تخلت فيه الدول الغربية وبالأخص الولايات المتحدة الأمريكية عن تلك المبادئ المتعلقة بحماية حقوق الإنسان وحقوقه الأساسية، كالحق في الحياة والعيش بحرية وكرامة على أرضه، وأهمها حق تقرير المصير للشعوب، ولازالت تدعم إسرائيل بكل الوسائل والإمكانيات وتتجاهل الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، الذي لا يزال يعيش الظلم والقهر والحرمان، وبالتالي فإن السياسات الغربية وأهمها السياسة الأمريكية، تقف عائقاً وتحدياً امام نجاح أهداف الدبلوماسية الصينية والمبادرات الحيوية الفعالة والثابتة تجاه تسوية وحل القضية الفلسطينية، وصولاً لرفع الظلم عن الشعب الفلسطيني، وتحقيق حقوقه المشروعة والغير قابلة للتصرف وفق القانون الإنساني والدولي.
في المحصلة، أثبتت الصين ومن خلال مواقفها ومبادراتها وأفكارها الإنسانية والقانونية والمؤسساتية والحزبية الفعالة تجاه القضية الفلسطينية والشعب العربي الفلسطيني، أنها دولة نزيهة وصادقة وعنوان للأمن والسلم والرخاء والتسامح، وتسعى لتحقيق أهداف ومحددات تلك المبادرات والمقترحات في النظرية والتطبيق، من خلال مواقفها الثابتة في المحافل الإقليمية والدولية دون خجل أو تردد. في المقابل، فإن مواقف الدول الغربية وبالذات الولايات المتحدة الأمريكية اصبحت غير جدية في تحقيق السلام والأمن والإستقرار في منطقة الشرق الأوسط، وأيضاً غير مكترثة لحالة حقوق الإنسان الفلسطيني وحقوقه السياسية والوطنية والإنسانية التي يعيشها الشعب الفلسطيني، وتقف عائقاً أمام الموقف الصيني الحيوي لتحقيق السلم والأمن والإستقرار في المنطقة والعالم ككل، وبالأخص تجاه حل وتسوية القضية الفلسطينية، لأنها عنوان الأمن والسلام في المنطقة.
فالمطلوب فلسطينياً أن نمضي في تعزيز العلاقة الإستراتيجية مع الصين بكل الوسائل والإمكانيات المتاحة، وأن نبني على نجاح العلاقة الإستراتيجية بكل جدية ومسؤولية عالية، فتلك مسؤولية وطنية عليا بإمتياز، وعلينا المضي قدماً لتعزيزها بحزم وثبات، لأن الصين صادقة في أهدافها وتوجهاتها المرحلية والمستقبلية في دعم وإسناد الشعب الفلسطيني وقضيته العادلة، فالصين رفضت الظلم والإضطهاد وتسعى لتحقيق الحق والعدل للأخرين، وهذا ما يريده الشعب الفلسطيني بكل أطيافه.
بقلم: علاء الديك / باحث بالشأن الصيني والعلاقات الدولية / معهد دراسات الشرق الأوسط بجامعة شنغهاي للدراسات الدولية. 18/6/2023