تفاعلت مختلف الفلسفات والأديان على أرض الصين، ولكلّ منها مكانته الخاصة في عالم اليوم، فإن كانت “الكونفوشيوسية” و”الطاوية” قد جاءتا على هيئة فلسفة وتعاليم فلسفية، فإنّ الإسلام قد وصل إلى الصين من خلال التجارة والتجار العرب، منتشرا بشكل سلمي بدون حدوث أي معارك أو فتوحات، ومتابعا مسيرته على أرض الصين.
في حقيقة الأمر، من غير الممكن لمن يملك اطلاعا على واقع الإسلام في الصين، ويعرف قومية “هوي” الصينية المسلمة ألّا يتذكّر علامة اللغة العربية الصيني “محمد مكين” الذي كرّس نفسه لخدمة اللغة العربية والإسلام. وأما اليوم فمن الممكن ومن خلال كتاب “محمد مكين علامة اللغة العربية الصيني” الاطلاع على السيرة الذاتية لحياة السيد “مكين” بالكامل.
الكتاب
أصدر مركز “البحوث والتواصل المعرفي” كتابا جديدا تحت عنوان “مُحمّد مكين علامة اللغة العربية الصيني” لمؤلفه الأستاذ “لي تشن تشونغ” وهو حاج من أبناء قومية “هوي” درس في جامعة القاهرة، ومن ثم عاد إلى الصين للتدريس في معهد اللغات الأجنبية في جامعة “بكين”.
وقد تولّى أعمال الترجمة البروفسور الدكتور “وانغ قوانغدا” وهو أستاذ في الدراسات الاستعرابية في جامعة “شنغهاي” للدراسات الدولية، والمدير التنفيذي لمركز الدراسات الصيني العربي للإصلاح والتنمية. أما المُراجع فهو الدكتور “أحمد عويّز” أكاديمي من العراق وأستاذ الدراسات النقدية والتأويلية في جامعة الكوفة”.
يتألّف الكتاب من عدة أقسام تلخّص حياة السيد “مكين” وعمله ودراسته ونضاله لنشر الثقافتين العربية والإسلامية في الصين، وكذلك رؤيته فيما يتعلّق بالفلسفات المنتشرة في الصين مثل الكونفوشيوسية والطاوية، إذ يعدّ أوّل من مهّد الطريق لإجراء مقارنات بين الأديان في الصين.
النشأة
ولد السيد “مُحمّد مَكين” في السادس من يونيو عام 1906 في بلدة “شاديان” بمدينة “قه جيو” بمقاطعة “يوننان” جنوب غرب الصين، كان ينتمي لعائلة قروية بسيطة. ولا بدّ من الإشارة إلى أنّ بلدة “شاديان” هي من أكبر وأشهر البلدات التي فيها تجمّع لقومية “هوي” المسلمة، وتتمتّع بمستوى ثقافي وتعليمي واقتصادي عال مقارنة بالبلدات الأخرى. عندما وُلد السيد “مَكين” كان عمر والديه “ستة عشر” عاما وأطلقا عليه اسم “يوى شو” وقد ذكر السيد مكين هذا الأمر إذ قال: “إنّ والدتي قد تزوجت مبكّرا، وأنجبتني وهي مازالت صغيرة السن، بل وأنجبتني مبكرا عن موعد ولادتي فلم يكتمل نموّي بعد، ويمكن القول إنّ خلقي ناقصا”.
وبعد أن تولى “مكين” منصبا في جامعة بكين، أحضر والده وزوجة أبيه للعيش معه، ولكن بسبب عدم قدرتهم على التكيف مع البيئة في الشمال إضافة إلى برودة الطقس، عادوا مجددا إلى قريتهم. ومن بعدها استمرّ مكين في إرسال المال لوالديه شهريا إذ كان يشغله تحسين مستوى معيشتهم.
وقد كان “مكين” في مرحلة صباه محبا للعلم والدراسة، فلم يكن كالأطفال من سنّه الذين يخرجون إلى اللعب واللهو، كما كان مقرّبا من كبار السن الذين يروون قصص القرية والعائلات والقصص التاريخية، ومكافحة قومية هوي للظلم، وعندما يواجه أي نقطة غير مفهومة يسرع إلى البحث والاستفسار عنها ولا يهدأ حتى يفهمها. كما كان يستيقظ باكرا كل يوم ويستمع للدرس بإنصات، وينهي واجباته المدرسية بجدية. ولم يكتف بالمناهج المدرسية بل كان يبحث عن كتب أخرى إضافية ليدرسها بشكل مستمر، ولذلك كانت نتائجه في المدرسة مذهلة دائما.
وبعد أن تلقّى تعليمه الابتدائي بالصينية والعربية في قريته، لم يعد تعليم الإمام في ساحة المسجد يرضي رغباته في السعي إلى طلب العلم، لذلك تحوّل إلى مدرسة “يوننان” العليا لتعلّم الدين الإسلامي في مدينة “كونمينغ”، وهكذا توسعت آفاق رؤيته، وبدأ في وقت فراغه يفكّر في حال الإسلام والمسلمين في الصين، وكل المشكلات التي تواجههم، فأدرك أنّ المثقفين من قومية “هوي” الصينية قليلون، وأنّ انخفاض مستواهم الثقافي لن يقف في طريق نهضة العديد من شؤون قومية “هوي” فحسب، وإنما سيشكّل هذا الأمر عائقا في دراسة الدين الإسلامي وتعليمه، وما يترتب على ذلك من أنّ المسلمين الصينيين من جميع الأقليات لا يعرفون تاريخ قومياتهم أو ثقافتها أو مكانتها، وهو ما سيؤدي إلى الكثير من سوء التفاهم فيما بينهم.
الدراسة الأكاديمية
عام 1931 ذهب السيد “مكين” للمشاركة في الدفعة الأولى من الطلبة المبعوثين إلى مصر لمدة ثماني سنوات من المدرسة الإسلامية الاعتيادية في شنغهاي، وقد عاد بنتائج ممتازة عام 1939.
تزامنت عودة “مكين” إلى الصين من مصر عام 1939 مع الحرب ضد اليابانيين، وكان المجتمع مضطربا آنذاك، والعيش صعب، وقد عُرضت عليه الكثير من المناصب العالية مع رواتب مغرية، ورفض دعوات شخصيات بارزة من “تشونشينغ”، إذ كان منهمكا في الدراسة والترجمة وتقديم الثقافة العربية الإسلامية إلى الشعب الصيني.
بعد الانتصار في الحرب ضد اليابانيين، تولى “مكين” منصب أستاذ اللغة العربية في جامعة بكين عام 1946، وهو من مؤسسي قسم اللغات الشرقية وآدابها، وقد أسّس بنفسه قسم اللغة العربية وفي ذلك الوقت لم يكن ثمة مواد سابقة يمكن الرجوع إليها، وبدأ من الصفر في كل شيء. إذ كان يقوم بإعداد المحاضرات، وبعد المحاضرات يستثمر وقت الفراغ والمساء في البحث العلمي والترجمة. وقد عمل في جامعة بكين أكثر من ثلاثين عاما وأعدّ للدولة أجيالا من الأكفّاء في العربية وثقافتها.
كان ينهض من النوم مبكرا وينام متأخرا، مسخّرا وقته في ترجمة القرآن الكريم وتاريخ الفلسفة الإسلامية.
في السبعينيات ضعف جسمه وتدهورت صحته نتيجة معاناته مع مرض السكري، وقد أصبحت إحدى عينيه عمياء، والأخرى يبصر بها فقط 0.2 ومع ذلك استمرّ بأعمال الترجمة مع عدسة مكبرة حتى اليوم الأخير قبل وفاته.
وقد شجّع مكين مختلف الطلبة الصينيين على دراسة اللغة العربية، عاملا على دفع العلاقات الودية بين الشعبين الصيني والعربي، وكذلك التبادل الثقافي بين الجانبين، إذ قال: “إنّ اللغة العربية صعبة في دراستها واللغة الصينية صعبة أيضا، فكلتاهما تحملان الصعوبات، ولكن صدقت الحكمة الصينية بالقول: إن كان الأمر أصعب فهو أثمن، وإن تتقن شيئا أصعب سيكون أثمن”
كما قال لأحد الطلبة المحتارين فيما إذا كان يجب أن يكمل دراسته في اللغة العربية أم يتجه إلى دراسة فرع علمي في الجامعة: “أنت على خطأ إنّ اللغة هي علم شامل يضم مختلف العلوم، لا بدّ أن تجيد الرياضيات والمنطق إذا أردت إتقان اللغة، إنني كنت أرغب بدراسة الرياضيات في مرحلة المدرسة الثانوية، وهذا يساعدني على دراسة اللغة العربية، وإتقان العلوم المتعلقة باللغة العربية”.
كما تطرّق الكتاب إلى ذكر دور الرئيس “تشو إن لاي” أول رئيس مجلس الدولة صيني في توطيد العلاقات بين الجانبين الصيني والعربي، وتحديدا الجانبين الصيني والمصري، إذ أنّه قابل مجموعة من الطلاب الذاهبين لدراسة اللغة العربية في مصر، وحدّثهم عن ضرورة الاجتهاد في الدراسة، ومدّ جسور الصداقة العريضة والمتينة بين الشعبين الصيني والمصري، كما أشار الرئس الصيني آنذاك إلى أنّ العالم في المستقبل سيعتمد على الجيل الشاب.
من أطلق عليه اسم “مكين”؟
لاقت أفكار “مكين” تشجيعا وتأييدا من السيد “باي ليانغ تشينغ” وهو عالم ورجل أعمال ذو سمعة طيبة في منطقة “شاديان”، وقد تلقّى تعليما جيدا منذ الصغر وحفظ عن ظهر قلب “المقدسات الخمسة والكتب الأربعة” و”مئة فيلسوف”، وقد كان أيضا مولعا بدراسة الطب الصيني والبحث فيه. كما كان من المسلمين الورعين وحفظ عن ظهر قلب الترجمات الصينية للكتب الإسلامية المقدسة، مهتمّا بدعم كل أمور قومية “هوي” حتى إنه أقام مزرعة شاي “البوار” بمدينة “يوننان” وخصّص دخل هذه المزرعة للمساعدة على تعليم الدين الإسلامي والثقافة الإسلامية، كما قام بتمويل بناء مدرسة ابتدائية ومدرسة إعدادية في منطقة “شاديان”. وكان كثير السخاء للشباب من قومية “هوي” الراغبين في السفر للخارج لتلقي تعليم أفضل. وعندما وجد السيد “باي” أن “ما وانتشينغ” مجتهدا في دراسته ولديه طموحات علّق عليه أملا كبيرا، وغير اسمه إلى “مكين” ولقّبه “تسي شي” .
تحليل العقائد الرئيسية للأديان في الصين
قدّم “مكين” تحليلا موضوعيا لمختلف العقائد والفلسفات الصينية، استنادا إلى الوقائع بعيدا عن أي نوع من أنواع التحيز، فمثلا وحول الكونفوشيوسية رأى مكين أنّ: “الكونفوشيوسية منسوبة إلى الفيلسوف الصيني الأعظم “كونفوشيوس” ولكنها لم تكن من اختراعه بل هي تقاليد وطقوس قومية موروثة من الآباء والأجداد، ومكتوبة في أسفارهم الأدبية والتاريخية ولهذا الدين ثلاثة معبودات، والتي هي “السماء والملائكة وأرواح الآباء” كما رأي السيد “مكين” أن: “الكونفوشيوسية من المدارس الفكرية التي نشأت في عهد ما قبل أسرة “تشين”، وهي تشدد على العلاقات الأخلاقية بين الناس، وتدعو إلى المحافظة على السنة، وهي ليست دينا، ولكن الناس احترموا الكونفوشيوسية كل الاحترام حتى تعبّدوا بها، فسمّيت بالدين الكونفوشيوسي منذ عهد الأسر الجنوبية والشمالية (420-589)م وصولا إلى اليوم، وهو ما يشبه حال الديانة البوذية والديانة الطاوية”.
وقد قدّم السيد “مكين” الكونفوشيوسية بوصفها دينا، مبينا الفرق بينها وبين باقي الأديان إذ قال: “جمع كونفوشيوس أحاديثه في كتاب يسمى الحوار، وهو كتاب يحترمه الصينيون احترام المسلمين لأنبيائهم، ويبنون له هياكل في البلدان ويقدمون له القرابين، ولذلك تعدّ تعاليمه دينا من الأديان في الصين، ولكن كونفوشيوس لم يدّع النبوة ولم تصدر عنه المعجزات كالأنبياء عليهم السلام، وما يؤكّد ذلك هو ما ورد في كتاب “الحوار” نفسه عندما سأل بعض التلاميذ كونفوشيوس عن الموت فقال: “لم نقدر على خدمة الأحياء فكيف نقدر على خدمة الأموات؟ ولم نعلم الحياة فكيف نعلم الممات؟”
وحول “الطاوية” قال “مكين”: “نُسب هذا الدين إلى الفيلسوف الصيني “لاوتسي” الذي هو أكبر من “كونفوشيوس” بعشرات السنين، وأحاديثه لم تزل محفوظة في كتاب “الأخلاق” الذي يتألف من خمسة آلاف كلمة، ومبادئه فلسفية محضة لا تُشمّ منها رائحة الدين، وإنما هي أصول خُلقية وسياسية ضابطها السنة” ولفت إلى أنّ: “أفكار لاوتسي أقرب إلى الحكمة منها إلى الدين، وليست الطاوية مبنية على أصول “لاوتسي” بل هي ناشئة عن فروعه ومشوبة بالخرافات القومية، وسبب ظهور هذا النوع من الدين هو الحاجة الماسة عند الأمة الصينية إلى ما يكفي حاجاتهم الدينية التي لم تكفيها الكونفوشيوسية”.
وحول البوذية: قدمها “مكين” كما أتت “من الهند مرورا بتركستان الصينية عام 67م ومن ثم إلى اليابان” وختم قوله: “تبيّن مما ذكرنا أنه من الحكمة الإلهية أن الدين الإسلامي جمع مزايا هذه الأديان”. وبهذا يكون قد شقّ الطريق لدراسة المقارنة بين الأديان في الصين.
أهمية الترجمة
تبرز أهمية الترجمة في هذا النوع من الأعمال، إذ عادة ما تقوم الترجمة بدور مهم في إحياء التواصل بين الأمم، فكما جاء في الكتاب: “للترجمة أهمية كبيرة، وتؤدي إلى زيادة التعارف بين الشعبين الصيني والعربي، فكلاهما يمثّل حضارة مهمة من الحضارات في العالم”.
فاليوم تبرز حاجة ماسة إلى هذا النوع من الكتب لا سيما في ظلّ التقارب بين الجانبين العربي والصيني، وبالطبع قد ظهر فن الترجمة بشكل لافت في هذا الكتاب سواء من خلال سلاسة اللغة أو عبور الفكرة إلى القارئ العربي، هذا العبور الذي قلّما يُشاهد في الأعمال المترجمة، وبالطبع فإنّ الدكتور “وانغ قوانغدا” المعروف في عالمنا العربي باسم “محفوظ” له الفضل الكبير في إيصال الأفكار والعبرة.
خاتمة
على الرغم من مرورأكثر من 40 عاما على رحيل السيد “مكين” إلا أنّ أفكاره لم تزل خالدة إلى اليوم، عسى أن يكون هذا الكتاب قد ساهم في تخليد بعض من هذا الأثر.
المصدر: رأي اليوم