بقلم لي تشنغ ون، سفير الصين الأسبق لدى السوادان والسعودية، سفير شؤون منتدى التعاون الصيني- العربي السابق بوزارة الخارجية الصينية
من قوافل التجارة على طريق الحرير القديم، إلى إقامة العلاقات الدبلوماسية بين مصر وجمهورية الصين الشعبية في عام 1956، إلى التبادلات المتنوعة والوثيقة في إطار مبادرة "الحزام والطريق"، يتوالى التواصل الودي بين الصين والدول العربية جيلا بعد جيل، مسجلا ملحمة رائعة.
من التبادلات الرفيعة المستوى إلى التعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والإبداعي والتبادلات الإنسانية والدعم المتبادل في محافل دولية مختلفة، حقق التعاون بين الصين والدول العربية منجزات مثمرة.
يشهد العالم اليوم تغيرات كبيرة لم نشهدها منذ قرن من الزمن، وتقف البشرية على مفترق طرق في مسيرتها التاريخية. إن التوطيد والتطوير المتواصل للعلاقات الصينية- العربية لا يتعلق بمصالح شعبيهما فحسب، وإنما أيضا يعد مساهمة مهمة لمستقبل العالم ومصير البشرية.
أثناء التبادلات الصينية- العربية الطويلة الأمد، تشكلت التقاليد والنمط والميزات الصينية- العربية المتسمة بالإخلاص والصدق والاحترام المتبادل والتعاون المربح للجانبين والتمسك بالأصالة مع الابتكار. هذا هو السبب في أن العلاقات بين الصين والدول العربية تدوم وتزدهر بلا انقطاع، وذلك كنز ثمين للشعبين الصيني والعربي.
الإخلاص والصدق
التقت الأمتان الصينية والعربية وعرفت كل منهما الأخرى على طريق الحرير القديم، وتبادلتا الدعم والتأييد في نضالهما من أجل التحرر الوطني، وتسيران معا على طريق السلام والتنمية. لا توجد ضغائن بيننا، ناهيك عن الكراهية، بل توجد عاطفة أخوية صادقة ومخلصة، وتوافق واسع. لا تنسى الصين أن الجزائر هي التي تقدمت مع ألبانيا ودول أخرى بمشروع قرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة في أوائل السبعينات من القرن العشرين، بموجبه استعادت جمهورية الصين الشعبية مقعدها الشرعي في الأمم المتحدة. وعندما وقع زلزال ونتشوان الكبير في عام 2008، قدمت السعودية أكبر مساعدة للصين، وقاد سفير السعودية لدى الصين آنذاك السيد يحيى عبد الكريم الزيد، الذي كان في الستينات من عمره، أكثر من ثلاثين موظفا في السفارة للتبرع بالدم لأبناء ونتشوان المنكوبين. وفي بداية تفشي جائحة كوفيد- 19، كان ملك السعودية سلمان بن عبد العزيز أول زعيم عربي هاتف الرئيس الصيني شي جين بينغ للتعبير عن دعمه للصين في مكافحة الجائحة، وكان رئيس جزر القمر غزالي عثماني أول من بعث برسالة تعزية إلى الرئيس شي، وكانت الإمارات العربية المتحدة أول دولة تقبل إجراء التجارب الخارجية للقاحات الصينية، بجانب شعارات تأييد الصين على معالم مشهورة في الإمارات ومصر، والفيديوهات القصيرة التي تدعم الصين على الإنترنت. ولا تنسى الصين أن رئيس مصر عبد الفتاح السيسي ورئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني حضروا مراسم افتتاح دورة الألعاب الأولمبية الشتوية ببكين في عام 2022، للتعبير عن دعمهم وتهنئتهم للصين على إقامة هذا الحدث الكبير، على الرغم من أن الرياضيين من هذه الدول لم يشاركوا في المسابقات الشتوية. تتناقل هذه الصداقة جيلا بعد جيل، وهي أنفس من الذهب.
الاحترام المتبادل
الاحترام المتبادل قيمة مشتركة بين الصين والدول العربية، وهو ما يبرزه التزام الجانبين بمبدأ عدم التدخل في الشؤون الداخلية للجانب الآخر. الأهم في التبادلات بين الدول هو الإخلاص والصدق، وفي التبادلات بين الشعوب هو ترابط القلوب. كل من الشعبين، الصيني والعربي، تعرض للتنمر في التاريخ، ولذلك فإننا نعارض التدخل الخارجي، ونحن أول من يمقت وعظ الآخرين بتغطرس، ونعرف كيف نحترم بعضنا البعض أكثر.
الصين تؤيد الدول العربية بثبات في حماية استقلالها وسيادتها، وتحترم الشعب العربي في اختيار النظم الاجتماعية وطرق التنمية حسب إرادته، وتحترم الثقافة العربية. تؤيد الصين الدول العربية بشأن القضية الفلسطينية، التي تتعلق بسيادة الدول العربية ومشاعرها القومية، وتدافع عن العدالة وحقوق الشعب الفلسطيني. وفيما يتعلق بالقضايا الإقليمية الساخنة، التزمت الصين دائما بموقف موضوعي وعادل، وتدفع التشاور والحل السلمي بين الأطراف المعنية، وهذا يحظى بتقدير كبير من الدول العربية. تعارض الصين بحزم ربط حقوق الإنسان بعرق أو دين معين، والمعايير المزدوجة بشأن قضية حقوق الإنسان. وفي السنوات الأخيرة، طرحت الصين عدة مبادرات ومقترحات لتحقيق السلام والتنمية في الشرق الأوسط، الأمر الذي يلقى ترحيبا كبيرا من قبل الدول العربية.
وفي المقابل، تؤيد الدول العربية بحزم نضال الصين في حماية استقلالها وسيادتها، وتتمسك بسياسة الصين الواحدة بوضوح. وفي ((بيان عَمان)) للدورة الثامنة من الاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني- العربي في عام 2020، تؤكد الدول العربية دعمها لموقف الصين من قضية هونغ كونغ، وتدعم جهود الصين في حماية أمنها الوطني في إطار "دولة واحدة ونظامين"، وتعارض التدخل الخارجي في الشؤون الداخلية الصينية، وتدعم وحدة سيادة الصين وأراضيها، وتؤيد جهود الصين في اتخاذ إجراءات الوقاية من الأعمال الإرهابية واجتثاث التطرف. وقد وقفت الدول العربية بحزم إلى جانب الصين وقدمت لنا دعما قيما في العديد من المحافل الدولية التي تنطوي على سيادة الصين ومصالحها الرئيسية.
الاحترام المتبادل يعزز الثقة المتبادلة. حاليا، الصين لديها آلية للتشاور السياسي مع معظم الدول العربية، وأقامت شراكات إستراتيجية أو شراكات إستراتيجية شاملة مع ثلاث عشرة دول عربية وجامعة الدول العربية. صار الاحترام المتبادل مفهوم القيم المشترك وأهم سمة للعلاقات الصينية- العربية.
التعاون المربح للجانبين
يمضي التعاون العملي بين الصين والدول العربية قدما باستمرار، في ظل الجهود المشتركة. وتسارع تطور هذا التعاون وحقق منجزات مثمرة منذ دخول الصين عصرا جديدا.
الإحصاءات تشهد على هذه المنجزات. في عام 2021، وصل حجم التبادل التجاري بين الصين والدول العربية إلى 3ر330 مليار دولار أمريكي، مقارنة مع 4ر222 مليار دولار أمريكي في عام 2012. أصبحت الصين أكبر شريك تجاري للدول العربية، وصارت الدول العربية أكبر مصدر نفط خام إلى الصين خلال عشر سنوات.
يتوسع نطاق التعاون الثنائي تدريجيا. من الفضاء إلى الصحراء، ومن الثقافة إلى التكنولوجيا، يتوسع التعاون الصيني- العربي في مختلف المجالات، ويحرز نتائج جديدة كل سنة. ومنذ وقت ليس ببعيد، انطلق مشروع التعاون في مجال بحوث وحماية الباندا بين الصين وقطر ووصل زوج من حيوان الباندا إلى الدوحة.
يتجسد التقدم الكبير للتعاون العملي الصيني- العربي بوضوح في منجزات التعاون المثمرة في إطار مبادرة "الحزام والطريق". تُعد الدول العربية شريكا طبيعيا للصين في البناء المشترك لـ"الحزام والطريق". إذ وقعت عشرون دولة عربية وثائق التعاون المعنية مع الصين، وكانت جامعة الدول العربية أول منظمة إقليمية توقع وثائق البناء المشترك لـ"الحزام والطريق" منذ أن طرحت الصين هذه المبادرة. وحقق الجانبان منجزات مثمرة في ظل الجهود المشتركة.
تناسق سياسات الجانبين باستمرار. أنشأت الصين لجانا ثنائية مشتركة مع العديد من البلدان العربية، وأصبح تعزيز مواءمة إستراتيجيات التنمية أهم جزء من مشاورات اللجان المشتركة. إن الخطة الخمسية الرابعة عشرة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية الوطنية وهدف المئوية الثانية الصينية قد حققا المواءمة المتعمقة مع خطط التنمية المتوسطة والطويلة الأجل للعديد من الدول العربية، من بينها رؤية مصر 2030، رؤية السعودية 2030، المبادرة الإستراتيجية الإماراتية لتحقيق الحياد المناخي بحلول عام 2050 وغيرها، الأمر الذي يرسى أساسا متينا لتوسيع التعاون المستقر الطويل الأجل بين الجانبين.
تقدم مستمر في ربط المنشآت. في الإمارات، يعمل مرسى الحاويات، المرحلة الثانية من مشروع ميناء خليفة، بشكل جيد بعد بنائه. في مصر، يتقدم مشروع النقل بالسكك الحديدية في المناطق الحضرية، ووصلت الدفعة الأولى من المركبات الصينية الصنع إلى مصر. ولايزال العمل في بناء أطول بناية في أفريقيا متواصلا في العاصمة الإدارية الجديدة بمصر رغم تفشي جائحة كوفيد- 19. في الجزائر، اكتمل مشروع بناء ملعب كرة القدم في سبتمبر عام 2021. وفي قطر، اكتمل بناء ملعب كرة القدم الرئيسي لبطولة كأس العالم لكرة القدم لعام 2022.
الجدير بالذكر أن العديد من الدول العربية تشارك في مشروعات مختلفة، في إطار "الحزام والطريق". في عام 2017، طرحت الصين ((مبادرة التعاون الدولي للاقتصاد الرقمي في إطار "الحزام والطريق")) مع مصر والسعودية والإمارات وغيرها من الدول العربية الأخرى.
التواصل التجاري أصبح أكثر نشاطا. استفادة من "الحزام والطريق"، شاركت العديد من الدول العربية في معرض الصين الدولي للاستيراد. وأصبح البرتقال المصري ومنتجات الورد السورية وزيت الزيتون التونسي والتمور السعودية وغيرها من المنتجات العربية الشهيرة، محبوبة من قبل المستهلكين الصينيين. وبالمثل، وصلت منتجات صينية إلى أيدي المستهلكين العرب عن طريق التجارة الإلكترونية السريعة التطور.
التعاون الاستثماري يواصل التوسع. مصر هي أول دولة تتعاون مع الصين في إنتاج اللقاحات، وبلغت الطاقة الإنتاجية السنوية مائتي مليون لقاح. وقعت حكومة مقاطعة فوجيان الصينية عقد تعاون مع الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك) في استثمار 40 مليار يوان (الدولار الأمريكي يساوي 2ر7 يوانات حاليا) لبناء مجمع كبير للبتروكيماويات؛ وتعتزم شركة الزيت العربية السعودية (أرامكو) بناء مصنع لألواح الصلب من الدرجة الأولى في العالم مع مجموعة باووو الصينية للصلب؛ استثمرت الصين في بناء مصنع لصب المعادن في المغرب، ويجري العمل في مشروع تجميع السيارات لشركة شيري للسيارات في السودان، إلخ.
صفحة جديدة للترابط بين الشعبين. أقيمت تسع دورات من الحوار الحضاري الصيني- العربي، وأربع دورات من مؤتمر الخبراء في مجالي المكتبات والمعلوماتية في الصين والدول العربية. وأُدرجت اللغة الصينية ضمن النظام التعليمي في الإمارات والسعودية ومصر، كما تظهر ترجمات الأعمال الكلاسيكية الصينية والعربية باستمرار.
التعاون الصيني- العربي هو تعاون للمنفعة المتبادلة والمربح للجانبين على نحو شامل، فهو لا يتمتع بالخصائص العالمية للتعاون البراغماتي بين الصين والعالم فحسب، وإنما أيضا يمثل المزايا الخاصة للعلاقات الصينية- العربية، التي استفاد منها شعبا الجانبين وشكلت نموذجا صينيا- عربيا فريدا.
التمسك بالأصالة مع الابتكار
يعيش العالم حاليا حالة من الفوضى والتغيرات الكبيرة، تتعايش التحديات والفرص، إذا أبحرت ضد التيار فإما أن تواصل التقدم إلى الأمام وإما أن تتخلف. صارت العلاقات الصينية- العربية أكثر رسوخا مع مرور العواصف. إن الابتكار يقدم طاقة لا تنضب، وأصبح صفة مميزة للعلاقات الصينية- العربية.
استفادة من الابتكار، أصبح التعاون الثنائي والتعاون الجماعي قوة محركة لتقدم العلاقات الصينية- العربية. يتطور منتدى التعاون الصيني- العربي باستمرار منذ إنشائه في عام 2004، وأصبح منصة للتعاون الجماعي تشمل 17 آلية تعاون. إن "مخطط العمل 2020- 2022" الذي وافقت عليه الدورة التاسعة للاجتماع الوزاري لمنتدى التعاون الصيني- العربي في عام 2020، قد حدد سبل االتعاون العملي والتنمية المشتركة بين الجانبين، وتم التوصل إلى 107 مشروعات تعاون في مجالات السياسة والاقتصاد والطاقة وغيرها من عشرين مجالا.
وبفضل الابتكار أيضا، يستمر التعاون الصيني- العربي في جلب الأخبار السارة، خاصة في السنوات العشر المنقضية، حيث يتطور التعاون في التكنولوجيا الفائقة بشكل مزدهر. أصبح زخم التعاون في مجال تكنولوجيا الجيل الخامس (5G) والبيانات الضخمة وتكنولوجيا المعلومات الفضائية والطاقة الجديدة قويا، بجانب توسع التعاون الثنائي في مجالات استصلاح الصحراء واستكشاف الفضاء وتوليد الكهرباء بالطاقة الجديدة وزراعة الأرز بمياه البحر والاستخدام السلمي للطاقة النووية والاقتصاد الرقمي وتعليم اللغة الصينية وغيرها.
يواكب التعاون الصيني- العربي اتجاه التنمية العالمية بشكل وثيق، في حين يشق طريقا جديدا. إن أمن البيانات هو التحدي الجديد الذي تواجهه الحوكمة العالمية، وكانت الصين والدول العربية في مقدمة من طرح الحلول. إن ((مبادرة التعاون في مجال أمن البيانات بين الصين والدول العربية)) التي أصدرتها وزارة الخارجية الصينية والأمانة العامة لجامعة الدول العربية في مارس عام 2021، أصبحت محاولة جيدة في بناء نظم وآليات للحوكمة الرقمية العالمية، مما ضرب مثالا يحتذى به للبلدان النامية للمشاركة في الحوكمة الرقمية العالمية وحوكمة الفضاء السيبراني.
إن تشكيل التقاليد والنمط والميزات الصينية- العربية لا ينفصل عن قرارات وإرشاد كبار القادة. فقد حافظ قادة الصين والدول العربية على التواصل الوثيق، ودفعوا تعاون الحكومات وصداقة الشعوب للجانبين. زار الرئيس شي جين بينغ الدول العربية في يناير عام 2016، وألقى خطابا بعنوان "التشارك في خلق مستقبل أفضل للعلاقات الصينية- العربية" في مقر جامعة الدول العربية، شرح بشكل شامل السياسة الصينية بشأن تطوير العلاقات مع الدول العربية. ومنذ تفشي جائحة كوفيد- 19، تبادل الرئيس شي جين بينغ مع زعماء الدول العربية الآراء بشأن مكافحة الجائحة ومواجهة التغيرات العالمية التي لم يسبق لها مثيل منذ قرن، وتوصلوا إلى توافق عام. زار عضو مجلس الدولة ووزير خارجية الصين وانغ يي ثماني دول عربية في ثلاث جولات، وحقق التواصل الكامل مع وزراء الخارجية العرب في عام 2021. وفي بداية هذا العام، زار الصين العديد من وزراء الخارجية العرب والأمين العام لمجلس التعاون لدول الخليج العربية. تلعب التبادلات الرفيعة المستوى دورا حاسما في استقرار العلاقات الصينية- العربية وتنميتها على المدى الطويل.
يستطيع الجانبان تعميق تناسق السياسات الإستراتيجية، والتشارك في بناء "الحزام والطريق" العالي الجودة، وبذل الجهود المشتركة لحماية السلام والتنمية والأمن الإقليمي، والتعاون لمواجهة التحديات العالمية مثل الجائحة وتغير المناخ، والتشارك في بناء رابطة المصير المشترك للبشرية. إن العلاقات الصينية- العربية لها آفاق واعدة. تمضي الأمتان الصينية والعربية قدما يدا بيد، وستقدمان من دون شك مساهمات جديدة لمستقبل العالم.
هناك قول صيني مأثور: الصديق العزيز هو من تتطلع إليه قبل الزيارة، وتشتاق إليه بعد الزيارة. فالصداقة التي تتجاوز الزمان والمكان تمكن الجانبين والشعبين من العيش في وئام وإقامة تبادلات ودية. إن القمة الصينية- العربية الأولى التي ستعقد هذا العام وينتظرها الشعبان الصيني والعربي، بفارغ الصبر، ستصبح بلا شك حدثا رئيسيا في تاريخ العلاقات الصينية- العربية، وستعزز بشكل فعال رفع مستوى العلاقات الصينية- العربية وتأتي بالمزيد من الفوائد للشعبين الصيني والعربي.